30/07/2023 - 17:25

سبع رسائل إلى أمّ كلثوم | رواية

سبع رسائل إلى أمّ كلثوم | رواية

لوحة غلاف رواية «سبع رسائل إلى أمّ كلثوم».

 

صدرت أخيرًا رواية «سبع رسائل إلى أمّ كلثوم» للكاتب الفلسطينيّ علاء حليحل عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع» في عمّان، وهي الكتاب السادس الّذي يصدر للكاتب.

تتتبّع رواية «سبع رسائل إلى أمّ كلثوم» قصّة عائلة صغيرة في قرية جليليّة نائية على مدار شهور عدّة، تبدأ يوم 8 كانون الأوّل (ديسمبر) 1987، اليوم الّذي اندلعت فيه الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.

 


 

في الحصّة الرابعة من ذلك اليوم الكانونيّ البارد، دخل أحد أولاد صفّ نور إلى صفّ يزن، وطلب من المعلّمة أن تأذن ليزن بالقدوم إلى صفّ المعلّمة روز. نهض يزن بتردّد وهو ينظر إلى المعلّمة الّتي طلبت منه الاستعجال بحركة نافدة الصبر من يدها. مشى يزن بتردّد وراء الولد: "شو في؟"، قال محاولًا استدراج الولد الّذي كان يمشي أمامه مسرعًا.

كان مجرّد التفكير في اسم المعلّمة روز يبثّ الرعب في نفس كلّ ولد وبنت في المدرسة بأسرها. شعر يزن بانقباض في صدره، وعندما دخل غرفة الصفّ كان أوّل ما رآه أخاه الصغير نورًا يقف أمام الطلّاب قرب اللوح وعيناه دامعتان حمراوان. حين رأته المعلّمة روز صرخت على نور بأعلى صوتها:

- "شوف أخوك! شاطر ومتفوّق وآدمي! ليش مش طالِعْلُه؟".

تسمّر يزن في مكانه.

رفعت المعلّمة روز العصا الثخينة عاليًا، وانهالت بها على يد نور، فتلوّى وهو واقف أمام الصفّ من دون أن يصرخ. كان يبكي بصمت، والمعلّمة تنهال ثانية على يده بالعصا. ضربة تليها ضربة، وهي تزمجر: "اِبكي وَلا! اِبكي!"، ونور يكابر ولا يصرخ. كانت تريده أن ينكسر لكنّه انتحب بصمت. دمعت عينا يزن على الفور وهو يتفرّج على نور الّذي كان يطأطئ رأسه وعيناه مثبّتتان في البلاط المربّع القديم. وقف يزن على بُعْد أمتار عدّة من المعلّمة ونور، وكان يواجه صفّ نور محاولًا عدم النظر إلى الطلّاب الّذين ملؤوا الغرفة وكان الذعر يملأ قلوبهم. كان يزن يرغب في أن يصرخ على نور فورًا: "ابكِ! ابكِ!" لكنّه لم يفعل. كانت عصا المعلّمة روز مروّعة.

توقّفَت عن الصراخ والضرب ريثما تلتقط نفَسها. رفع نور رأسه ونظر إلى يزن نظرة مخيفة، فيها خجل وخوف وحقد. كان كلّ ما يريده يزن في هذه اللحظة أن يستدير ويخرج راكضًا من الصفّ. لكنّ هذه الفكرة كانت خيارًا غير مطروح في تلك اللحظة. نور معروف بشقاوته وكراهيّته للدروس، وكانت علاماته معظمها ’حمراء‘. يبدو أنّه أخرج المعلّمة عن طورها. ها هي تشدّ يدها على عصا الكرسيّ الثخينة، وتنهال على يد نور صارخة: "كمان؟ كمان؟ بدّك كمان؟ احكي".

لم يتفوّه نور بكلمة واحدة. حنى رأسه وشدّ جسمه كالرفّاص في ما كانت العصا تنهال عليه. "كمان؟"، كانت المعلّمة روز تصرخ، حين توقّفت للحظة ناظرةً إلى يزن. "قلت إشي؟"، تجمّد يزن. إنّه يدرك الآن أنّ كلمة ’لأ‘ ربّما قد خرجت من فمه وحدها، بصمت، بصوت لا يكاد يُسْمَع. انهمرت الدموع على خدَّي يزن، ولمّا رأت المعلّمة روز دموعه استشاطت غضبًا أكثر، وضربت نور هذه المرّة بالعصا على وجهه ضربة قاسية، وصاحت: "شفت؟ ... بكّيت أخوك! ليش مش طالع لأخوك؟".

ثمّ توجّهت إلى يزن والعصا معلّقة بالهواء فوق يد نور: "اِحكي لإمّك وأبوك! احكيلهن قدّيش أخوك تيس وحمار!".

هزّ يزن رأسه بخنوع وهو يمسح الدمع بِكُمّ قميصه الأزرق الفاتح. لم يرَ نور دموع يزن، فقد كان مُطَأطئًا رأسه، وجهه محمرّ وشعره مخربَط. لا بدّ من أنّها شدّته بشعره وهي تضربه، فكّر يزن برهة، وأغاظه الأمر لأنّه يعرف أنّ نورًا لا يطيق أن يلمس شعره أحد. في لحظات المرح واللعب مع أمّهما، يركض نور في أرجاء البيت مذعورًا وضاحكًا؛ لأنّ هاجر ويزن يريدان أن ’ينكشا‘ شعره الأسود الأملس. وعندما ينجحان في الإمساك به يثبّتانه على الأرض، وتدسّ هاجر راحة يدها في شعره الغزير فَيُجَنّ جنونه رغم ازدياد ضحكه وضحك يزن.

اِرتجف يزن فجأة وانقبض جسده بعنف، وسرت قشعريرة باردة قاتلة فيه، فتسمّرت كلّ مسامه الجلديّة دفعة واحدة؛ لقد تخيّل للحظة أنّه هو مَنْ ’يأكل‘ كلّ هذه العصيّ. كان من المفترض أن يشفق على أخيه في تلك اللحظة، لكنّه شعر براحة كبرى لأنّه ليس مكانه، فاشتدّت القشعريرة في جسده أكثر.

في الطريق إلى البيت سار الاثنان صامتين، في ما كان نور يمشي ويده اليمنى متورّمة من الضربات. كان يزن يختلس النظر إلى يد نور، ولا يقوى على لمسها، رغم الرغبة الطاغية الّتي انتابته في لمسها. لم يكن يزن يعي بسنواته العشر أنّه يريد أن يمسكها وأن يقبّلها بحنان، كما تفعل هاجر كي يخفّ الألم.

فجأة توقّف نور واتّكأ إلى حافّة الجدار القديم في نهاية الطلعة الموصلة إلى طريق البلوطة، ومرّر كفّ يده اليسرى على يده اليمنى بصمت، ثمّ قال من دون أن ينظر إلى يزن: "تِحكيش لأبوي".

كانت المعلّمة روز قد طلبت يزن إلى الصفّ ليشهد على ’القتلة‘، وليخبر هاجر ومصطفى بما حدث؛ كيف أنّ نورًا أحرق دفتر زميله وهو يلعب بالكبريت داخل الجارور أسفل الطاولة. هبّت النار للحظة وعلا الدخان وصراخ الأولاد؛ فسارعت المعلّمة إلى إطفاء الدفتر، وسحبت نورًا من أُذنه إلى جانب اللوح، واستلّت عصاها ’إجر الكرسي‘ الشهيرة، وبدأت تهوي بها على جسم نور ويديه.

"تحكيش لأبوي"، قال ثانية بعد أن رفع عينيه هذه المرّة مستجديًا.

- "بسّ المعلّمة طلبت...".

- "وإزا!".

أزاح يزن بصره نحو الجهة الأخرى، وراقب مجموعة الشباب، الّذين كانوا يعلّقون على عمود الكهرباء الخشبيّ ورقة كبيرة مرسومًا عليها قبضة تحمل حجرًا. 

"شوف..."، مدّ نور يده صوب يزن. تطلّع يزن إلى يده المحمرّة والمنتفخة. كانت ’عُقَد‘ أصابعه في ظاهر اليد زرقاء متورّمة، وبعض الدم قد تخثّر فوقها. أزاح يزن نظره ثانية.

دسّ نور يده اليمنى في جيبه، وسأل بهدوء:

- "ليش إجيت؟".

- "هيّي طلبت!".

- "بسّ إنتي ليش إجيت؟".

- "هيّي طلبت بقولّك!".

صمتا. شعر يزن بدمعة تنزل حارقةً خدّه، وقال بعفويّة وهدوء:

- "أنا بَكْرَه إنّي متفوّق وشاطر".

- "تحكيش لأبوي، فاهم؟ إزا حكيتله رح يضربني. إيدي عم توجعني!".

- "بسّ رح يضربني أنا إزا عِرف إنّي ما حكيتله".

- "يضربك؟ أنا اللّي دايمًا باكل قتلة... خلّيه يضربك إنتِ!".

- "بسّ ليش يضربني أنا؟".

ركل نور قدم يزن تحت الركبة بقليل. كانت ركلة موجعة، رغم أنّها كانت متردّدة وخجولة. ومع ذلك لمعت عينا يزن بالغضب؛ فهَوت يده على وجه نور بقوّة. جحظت عينا نور. كانت المفاجأة أكبر من أن يحتملها الاثنان. قام عن الجدار، وصرخ في وجه يزن باكيًا:

- "بكرهك! ليش إجيت؟".

- "وإنتي ليش مَبْكيتِش وهيّي تضربك؟ ليش ولّعت النار بالصفّ؟".

ركض نور مبتعدًا. لم يتوجّه إلى البيت، بل عاد نازلًا الطلعة صوب البلد. ركض يزن وراءه. كان نور يسرع ويزن يسرع وراءه. بكى الاثنان وهما يركضان بأقصى سرعة، لاهثين، والمحفظتان المدرسيّتان المنتفختان بالكتب تخبطان على ظهريهما بقوّة وعنف.

كانت المحفظة الّتي على ظهر يزن تبعث فيه ارتجاجًا قويًّا خلخل كلّ أعضائه، وشعر بأنّ رئتيه ستخرجان من جسمه مع الزفير القادم. ومع الزفير القادم صاح يزن مجهشًا:

- "نور، تعال! أنا باكل قتلة من أبوي... تعال!".

 


 

علاء حليحل

 

 

 

كاتب أدبيّ ومسرحيّ وصحافيّ ومترجم، حاصل على البكالوريوس في «الاتصال الجماهيريّ والفنون الجميلة» من «جامعة حيفا»، وخرّيج مدرسة كتابة السيناريو في تل أبيب. يعمل منذ سنوات طويلة في الصحافة المكتوبة والإذاعيّة وصحافة الإنترنت، وأسّس موقّع «قدّيتا». من كتبه: «أورُفوار عكّا» (2014)؛ «كارلا بروني عشيقتي السرّية» (مجموعة قصصيّة، 2012 و2016).

 

 

التعليقات